بحث

10/03/2016

جنازة رجل

كانت أعداد المنتظرين للجنازة أمام بوابة المسجد كثيرة هذا اليـوم..
كأني أرى كل وجـوه المدينة العتيقة شباب وكهـولا وشيـوخا مجتمعين..
يتهامسـون مثنى مثنى في خشـوع منقطع النظير..
خرجت الجنازة من البوابة الجانبية للمسجد..
نعش خشبي يحمله أربعة شبان يزاحمهم آخرون..
تحركت أفواج المصلين تنجذب خلف الجنازة بخطى مهرولة..
وبدأت حيطان الأزقّة الضيقة تصدح بأصواتهم المتعالية: 
لا إله إلا الله محمد رسـول الله..
إنغمست وسط المسيرة وبادرت بالإقتراب من النعش..
كان الرجال والشباب يتسابقون لحمله تحت أكتافهم..
من يكون هذا الرجل يا ترى!!..
أصابتني أشعة الشمس في عيناي..
فشعرت بدفئها في جوفي..
وقررت أن أخوض معهم هذه المعركة..
فهذا الرجل لا يمكن أن يكون سوى ولي من أولياء الله الصالحين..
هرولت منسلا بين المشيعين..
أستسمح هذا وأراوغ ذاك حتى اقتربت من النعش..
أحسست بوجود الملائكة من حوله..
ولم أجد منفذا واحد للإمساك بالنعش فضلا على أن أضعه على كتفي..
بدأنا نقترب من المقبرة..
ولم أكن لأسمح بتضييع هذه الفرصة..
فقلّما نشيع جنازة يُجمع أهل الأرض على صلاح صاحبها..
ومن شهد له أهل الأرض..فقد رفع ذكره في السماء..
انحيت إلى أذن أحد الشباب الذين يحملون أركان النعش..
وهمست قائلا: إذا تعبت فدعني أحمل عنك..
لم يلتفت إلي..بل طأطأ رأسه وغض طرفه مخافة أن أنازعه الأمر..
إنحيت ثانية إلى أذنه قائلا: دعني أفوز بقليل من الأجر..
إستسلم هذه المرة ومد إلي الركن الذي كان فوق كتفه..
إتجهت الأنظار إلينا فارتميت ممسكا بالمقبض لئلا يسبقني إليه أحد من المتدافعين..
ياله من شعور عميق..
شعرت بأن من في الكفن هو الحي..
وأننا نحن الموتى..
لقد اجتاز امتحان الدنيا بنجاح..وها نحن نزفه إلى مقعده في الجنة خالدا فيها..
إجتذبتني يد من الخلف..
شاب آخر يريد أن يفوز بحمل النعش..
تنازلت عن المقبض..فتنازعته الأيادي..
عدت إلى الخلف أتأمل في ذلك المشهد الجميل والرهيب في آن واحد..
دخلنا إلى المقبرة الصغيرة واتجهنا نحو القبر الذي أُعد للرجل..
قفزت بين القبور لعلي أجد مكانا على حافة القبر لأتابع مراسيم الدفن..
إستدرت إلى الخلف فذُهلت لهول المشهد..
كأن رجال المدينة بأكملها نزلوا عن بكرة أبيهم ليحضروا هذه الجنازة..
إمتلأت جنبات المقبرة بهم واختفت الأجذاث تحت جلاليبهم..
أنزل الحيّ إلى قبره..
فبدأت الأيادي تتنازع المعاول هذه المرة.. 
تبا..من يكون الرجل؟
إنحنيت إلى الأرض وقبضت قبضة من تراب ألقيت بها صوب القبر..
لم تلبث المعاول تنهال على التراب وتسكبه في القبر..
ما أسرعه من دفن وما أيسره..
إنتدب أحد السادة لإلقاء كلمة..
فاستدرت باتجاهه..
وعند استدارتي..
شاهدت العديد من المقل تجود بعبراتها في حزن صادق نادرا ما نصادفه..
أعين نظراتها فارغة قد غاصت في ذكرى الرجل الحي الذي دفناه للتو..
إستمعت إلى الكلمة..فعلمت حينها من الرجل..
شهد له الجميع بالصلاح والمعروف..
غبطته وتمنيت مكانه..
لم أعرفه شخصيا ولم أجاوره قط..
لكني أيقنت أن الله يعرفه..
وأنه لما كان يعرف الله في حياته..

هو الآن لا محالة في جواره وضيافته..

0 تعليقات :