بحث

06/09/2014

يوميات أونزيم: مسرحية دو ماغِس



كانت الشوارع مليئة بالجالوق..وأصوات مزاميرها تتعالى في الفضاء..
كأنها تتباهى على بعضها البعض أيها أكثر ضجيجا..
بداخلها أناس أشباه المـوتى..مُقَلُهم شبه فارغة تغوص في فراغ التفكير..
أشعر بثقل همومهم من بعيد..لكنهم مُصرّون على التظاهر بالتنعم والعيش الرغيد..

كنت أمسك بمقود دراجتي الهوائية..أحاول جاهدا التماسك ومتابعة الدوس لكي أقتحم العقبة التي كانت أمامي في زنقة سبتة..وجوارحي تتبرأ بالإجماع من تسمية الدراجة ب"الهوائية"..وتقول بصوت واحد:"أين هو الشّراع ؟؟..إنها دراجة عضلية تستهلك طاقة الجسد للمضي قدما نحو وجهة قائدها"
مررت أما بوابة المستشفى الجامعي..فاقشعر جسدي..
بدأت ذكريات مريرة تتسابق كالفقاعات الملغمة لتنفجر على شاشة مخيلتي..
لكني ابتدرتها بشلال الملفات العالقة والأشغال التي لم أتمها بعد..
فعادت تترسب بهدوء في قعر مستنقعات الذاكرة..
استدرت متجها إلى شارع "الخيلاء" الذي يعرفه الكثيرون بشارع 2 مارس..
حيث المقاهي الباذخة والإقامات الراقية والمتاجر التي يرتادها مواطنوا الدرجة الأولى من أهل هذه المدينة "البيضاء".. 
تذكرت السكريتيرة "فلانة" التي كانت تتباهى علي في بداية الألفية الحالية بأنها تسكن في إحدى الإقامات بهذا الشارع ذي النسب والحسب.."شاريع دو ماغس"..وكيف جاهدت هي وزوجها لسنوات عجاف حتى تمكنا من اقتناء شقة في هذا الشارع..
لم أعد أعجب لأمر أهل هذه المدينة..يتناحرون في الإستزادة من الممتلكات..ويفنون وجودهم في الحصول على الألقاب وبلوغ المناصب..يؤكدون بتباهيهم أننا إذا اختزلنا ممتلكاتهم وألقابهم ومناصبهم..سنحصل على النتيجة الحتمية أنهم يساوون لا شيء..

بلغتُ شاريع دو ماغِس..فانحرفت بدراجتي نحو الرصيف لكي أجري اتصالا هاتفيا..
- "آلو..أنا في شاريع دوماغِس..أين أنت"
- "أوكي..إنتظرني بجوار وكالة شركة الإتصال..أنا قادم وبحوزتي القرص المضغوط"
تابعت السير حتى وصلت إلى عين المكان..أرسيت دراجتي العضلية بمحاذاة الرصيف..وصعدت على الرصيف..
أسندت ظهري إلى أحد أعمدة الكهرباء بجوار الوكالة مستقبلا الشارع..واستخرجت هاتفي لأطلع على علبة الرسائل..
كانت الشمس خلفي..لكني كنت أشاهدها في كل رقعة  من شاريع دوماغس..تحاصر الظل بأشعتها الذهبية المتألقة..
كنت أسترق النظر إلى محطة حافلة النقل "الحضري" التي كانت أمامي في كل مرة تتوقف فيها حافلة من الحافلات الخضراء الفرنسية أمام ذلك الكـوم الهائل من البشر ..أقدم لها عزائي في مغادرتها لدنيا الإفرنجة..واستقرارها في مثواها الأخير في بلاد المسلمين..
تقدُم الواحدة تلو الأخرى ممتلئة عن آخرها..تغطيها طبقات من الغبار الغامق من كل جانب..
كأنها أجذاث متحركة..يتدافع المارة لاقتحامها بغية الحصول على رحلة تمكنهم من حقهم في العودة إلى مساكنهم بعد يوم طويل من العمل..
عدت إلى شاشة هاتفي الذكي..وانغمست أقلب في صفحاته غير عابئ بما يحدث من حولي..
لكن صوت مزمار تكرر لعدة مرات شد انتباهي..
رفعت بصري باتجاه مصدره..فإذا بسيارة مُسِنّة وسط الزنقة يقودها شخص يلوِّح بيده باتجابي..
نظرت إليه جيدا..فـوجدت أني لا أعرفه..
وبما أن السيارة كانت بعيدة..ظننت..أو أقنعت نفسي أنه ربما يخاطب شخصا آخر غيري..
طأطأت رأسي وعدت لتحريك أصابعي على شاشة هاتفي الذكي..أتفقد خطي الزمني على تويتر..
سمعت: "آ سمحمد!..آ سمحمد !!"..
رفعت بصري مجددا ..
إنه شخص بسيط يقود عربة خشبية يجرها حمار..
تأملته جيدا..فصاح بي أن أستجيب مشيرا إلى صاحب السيارة المُسِنّة التي توقف صاحبها في الصف المقابل..
ولازال يلح إصراراً أن لا تفارق يده زر المزمار الذي يملا المشهد أمامي ضجة..
تسألت في خاطري: ما هذه التمثيلية الهزلية؟ 
رفعت يدي بدوري أشير بها إلى صاحب السيارة أرمز له متسائلا ماذا يريد..
فلوّح ثانية بيده يطلب مني التوجه إليه..
نظرت إلى الدراجة أمامي..وتساءلت مجددا: هل هي كاميرا خفية يمثل فيها هؤلاء؟ 
بمجرد تفكيري في الكاميرا الخفية..شعرت بشعور غريب..
نظرت إلى الأرض متأملا..فتوقفت كل الاصوات من حولي..
رفعت بصري وتفقدت المشهد أمامي بشكل دائري من اليمين إلى اليسار..
المقاهي التي في الصف المقابل من الشارع..أغلب من بها يحملقون في..
الكوم الكبير من البشر الذين ينتظرون بمحطة الحافلة..بعضهم يسترق النظر إلي..والبعض الآخر يتهامسون في ما بينهم..
صاحب العربة الخشبية عبَرَ الشارع إلى الضفة الأخرى..وأناخ دابته وجلس ينظر إلي..
عدت بنظري إلى السيارة المسنة..لا تزال في مكانها..لكن صاحبها لا يـوجد بها..
المارون  على الرصيف يرمقونني بأعينهم مستمرين بالمشي..
اكتشفت أني الممثل الوحيد في هذه المسرحية المبهمة..وأن الأضواء كلها موجهة باتجاهي..
تبا..ما الذي يحدث؟
لم أكد أتم كلماتي حتى تلقيت ضربة على جبهتي بشي لاذع..
استنفرَت جوارحي عن بكرة أبيها..وقمت بإخفاء هاتفي في جيبي..
نظرت في جميع الإتجاهات لعلي أجد من سدد إلي  هذه الضربة..
نظرت إلى الأعلى لعل الشيء الذي أصابني سقط من إحدى الشُرف التي في العمارة التي أقف أسفلها..لكنها كلها كانت فارغة..
نظرت إلى الأرض فوقع بصري على شريط مطاطي أصفر..
شككت أنه الذخيرة التي تم استعمالها لإصابتي في جبهتي..
إنحنيت والتقطه مسرعا..
نظرت إلى الدراجة ثانية..لازالت في مكانها..
إلتفت بسرعة إلى خلفي..فلم أجد إلا شابا يرتدي سروالا وقميصا أسـودين..
لم يلبث أن إستقبل بوجهه زجاج واجهة الوكالة التجارية..محاولا التظاهر بالإنشغال بالنظر إلى المعروضات في الوكالة..
إستدار ببطء باتجاهي..فالتقت أنظارنا..
لم أكن مرتاحا لنظرته الثعلبية فقطبت حاجبَي واستمررت بتركيز نظري في عينيه..
لم يلبث إلا يسيرأ فتحرك مغادرا..فاستدرت ثانية أتفقد دراجتي..
نظرت إلى من حولي..فوجدتهم جميعا ينظرون إلى الشاب الذي كان مغادرا..
ثم لم يلبث بعض المتواجدون في المقاهي ينهضون ويتقدمون باتجاهي..كذلك بعض الواقفين في المحطة بدأ بعضهم يتجه نحوي..فجأة ظهر صاحب السيارة..
لا أخفيكم أني كنت في حالة من الإرتباك لا أحسد عليها..خصوصا أنني لا أدري ما يجري من حولي..
مما جعلني لا أستطع تقدير ردة الفعل المناسبة تجاه كل هؤلاء الناس الذين جاؤوا لتهنئتي..

صاح صاحب السيارة في وجهي: "علاش ما جيتيش عندي أصاحبي؟"
ضغطت بأصابعي على الشريط المطاطي..دليلي الذي كنت أحافظ عليه..
تابع مبتسما: "نجّاك الله..راك مرضي الوالدين!"
تجمع حولي الناس وحاصروني من كل جانب..
واختلفوا في مداخلاتهم..بين مهنئ ومعاتب..ومتعجب ومحملق..
إستجمعت كل قواي..وقلت: "آش واقع؟"
نطق أحد المتفرجين الذي كان يشاهد فصول المسرحية من أحد المقاهي في الجهة المقابلة من الشارع:" لقد مر شابين على دراجة نارية..و ما إن شاهدا الهاتف الذي كنت تمسكه بيدك..حتى توقفا بعد أن تجاوزا مكانك بقليل..نزل أحدهما وجاءك من الخلف يتربص بك..ويفكر في طريقة ينتزع بها هاتفك."
تذكرت ذلك الشاب الذي شاهدته أمام واجهة الوكالة..
تابع المتفرج قائلا: "عليك أن تشكر صاحب السيارة فهو من أنقذك."
إستدرت إلى صاحب السيارة..فابتسم قائلا: "حين رفضَت أن تستجيب لي ولصاحب العربة..ركنت سيارتي جانبا..ثم جئت متخفيا خلف السيارات..حتى وصلت إلى السيارة التي كانت متوقفة أمامك..إختبأت خلفها..وبدأت أفكر في طريقة أوقظك بها من غفلتك..وأحذرك بها من اللص الذي كان واقفا خلفك..إستخرجت شريطا مطاطيا أستعمله للم أكياس أقراص الأفلام التي أبيعها..مددته جيدا وسددته باتجاهك فأصابك في وجهك..وعندما استدرت باتجاه اللص وتابعت النظر باتجاهه..أيقن أن خطته في سرقة هاتفك قد باءت بالفشل..فلحق بصاحبه واستقل الدراجة النارية..وغادرا."

تتابعت أصوات الناس الذين تجمهروا من حولي..فهذا يعاتبني على استخراج هاتفٍ كهاتفي في الشارع..
والثاني يصف ما قمت به من الإطلاع على علبة الرسائل في الشارع بمغامرة كادت أن تسفر عن إصابة في جسدي لا قدّر الله..
وثالث ينهاني عن فعل ذلك مجددا..
وآخر يتحدث عن "رضاة الوالدين" ودورها الحاسم في إنقاذي..
نظرت إلى وجوههم جميعا فانقطعت أصواتهم في مسامعي..
أحسست بسرور عميق يخالجه شعور بالإطمئنان هيمن على فؤاذي..
بدأت أتأمل في كل ما حدث خلال هذه المسرحية الجِدِّية..
سبحانك يا رب..من أنا حتى تسخر لي كل هؤلاء الناس بدون علم مني..يعملون بأمرك للحفاظ على سلامتي..
رجل يترك أشغاله..ويوقف سيارته لإنقاذي دون يكـون بيننا تعارف مسبق..
وآخر يساعده في مهمته..لا يعرف أحدا منا نحن الإثنين..
إسترجعت..وحمدت الله كثيرا..
انبعثت أصواتهم من جديد تحاصرني من كل جانب..
يجادلونني في حق من أبسط حقوقي المدنية في مدينتي التي أعيش فيها بين "المسلمين"..
ولا أحدا منهم يستنكر "انعدام الأمن" السافر الذي أصبحت تعيشه مدينة كمدينة الدارالبيضاء..
حتى أصبحت للص الجرأة على سرقة عباد الله في وضح النهار دون أدنى خوف من العقاب ودون اكتراث بعدد أجهزة الأمن التي تتوفر في المدينة..
شكرتهم جميعا..وعانقت صاحب السيارة..
أخبرته أنه لم يكن مجبرا على التخفي واستعمال الشريط..وأنه كان من البسيط أن يتقدم نحوي ويتظاهر بمعرفتي..فيصافحني ويهمس في إذني بما يحدث..كي أرافقه وأغير المكان..
دعوته لشرب فنجان قهوة وشرحت له كم أنا مدين له بصنيعه..
حاولت مجازاته ببعض الدنانير..لكنه رفض..وأكد أن أفضل جزاء بالنسبة له هو الترحم على والديه..
إشتريت بعض الأفلام الأجنبية التي استخرجها من سيارته..وأكدت على امتناني له..
ركبت دراجتي..وتحركت صوب الشمس أُِسرّ إليها بصنيع الله بي وحِفظه لي ذلك اليوم..
لكن  تفاصيل المسرحية جعلتها تشعر بالخوف..فسارعت في المغيب خلف العمارات..
مددت يدي إليها أستشعر أشعتها محاولا إظهار تفاؤلي بالتوكل على الله..
لكن يبدو أن مشاهِد مكر البشر في مدينتي كانت مؤثرة عليها..فبادرت بالغروب..
صدق من قال: "ليس كل شيء يقال"..

لم يمض إلا شهر أو قليل على تلك المسرحية..حتى ابتليت بسرقة حاسوبي وحقيبة عملي التي كان بداخلها جل وثائقي التعريفية وعدة أغراض لي..وكانت أشد نكسة لي فقداني لكاميراي الثمينة بين الأغراض التي تمت سرقتها..
أعلنت فترة حداد عليها لم تأت على نهايتها حتى سرقت دراجتي العضلية التي كانت دابتي التي أتنقل عليها لقضاء مصالحي.. 

"فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم"
آل عمران

لعلي يوما ما أحكي لكم تفاصيل الدوامة التي سقطت فيها حين حاولت إشعار السلطات بوقوعي ضحية لسرقة أمتعتي..وكيف تقاذفتني الكوميساريات قبل أن أستطيع الإدلاء بأقوالي والحصول على الوثائق التي تؤكد فقداني لبطائقي..

إلى ذلكم الحين..كونوا يقظين منتبهين..
وقولوا: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به
وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا

0 تعليقات :