بحث

03/08/2014

مصيدة عبد الحميد كشك



 



قبل سنوات، إعتدت الصلاة في أحد المساجد الآهلة بالمصلين..وكان هناك بائع متجول..أو بالأحرى بائع مستقر "داك الوتاد" لا يفارق بوابة المسجد..شاب في مقتبل العمر يبيع الأشرطة الصوتية والكتيبات الدينية والتسابيح والبخور والعطور الشرقية..وبعض الملابس الخاصة بنوع من الشباب "الملتزم" من قبعات وأقمصة وجوارب مستوردة..يمارس المسكين تجارته الحلال على الرصيف مبتعدا عن احتراف البطالة والإستعذار بعدم توفر فرص الشغل..
كان يلبس دائما قميصا قصيرا ونعلا جلديا ويضع قبعة على رأسه..سمت الملتزمين الشباب الذين يعتقدون أن الإلتزام بالأزياء..وأن لا التزام بتعاليم الإسلام إذا لم يتشبه المرء بمسلمي المشرق من مصريين و"سواعدة" في هندامهم..فما تكاد ترى أحدهم حتى تظهر لك فوق رأسه لافتة افتراضية تحمل عنوان: "أنا ألبس هكذا..إذا أنا ملتزم".

ولا ضير في ذلك..فنحن في بلد منّ الله فيه علينا بالحريات الخاصة والعامة..يتمتع الفرد فيه بحريته في اختيار لباسه وأفكاره وتوجهاته..ولا حرج عليه في ذلك مادام لا يتجاوز حريات الآخرين..

وكان من حسنات ذلك الشاب الوسيم..أن الإبتسامة لا تفارق وجهه..يحسن الخطاب مع الزبائن ويتقن توجيههم إلى المنتوج الذي يوافقهم..وكان ذكيا بحيث أدرك في مدة قليلة أن أفضل الزبناء هم النساء اللواتي يصلين في ذات المسجد..أو اللواتي من المارة..سريعا ما يعجبن بأغلفة الكتيبات الصغيرة المليئة بالألوان..تزينها عناوين مغرية قد طبعت بخطوط جميلة غالبا ماتتخذ من "الجنة" و "الفردوس" وسيلة لتسويق محتوياتها..فيضع هو لمسته الخاصة بطريقته في التجاوب معهن وإسداء النصح لهن ليصنع جوا إيمانيا يملأ بالدفء تلك اللحظة ويخلق شعورا محفزا للمبادرة بالخير..فلا يترددن في شراء ما يعرضه من سلع..بل يقترح عليهن سلعا أخرى يعدهن بجلبها في موعد محدد..فيقدّمن له دفعا مسبقا على أن يعدن بعد ذلك لاستخلاص مشترياتهن..

وبطبيعة الحال..عندما يحدث أن يشعر الناس بذلك الإحساس العميق بالسعادة الآنية في لحظة ما..يصبح من المحتمل جدا أن يقرروا إعادة خلق ظروفها مجددا ودعوة آخرين لمشاركتهم إياها..فتجد تلك النسوة يهمسن في آذان صديقاتهن يمدحن ذلك البائع ..ويوصينهن بجودة سلعه وسلاسة معاملته..فلا يتأخرن يأتينه 
جميعا أو أشتاتا رغبة فالشراء..ورغبة كذلك في إعادة خلق تلك اللحظة الممتعة ومضاعفة ظروفها للحصول على ذلك الشعور الآني بالسعادة..

وهذا بالضبط هو أساس علم التسويق الذي يخترق النفس البشرية بعيدا عن الأرقام ومعايير الجودة..فتجد مثلا أن بإمكان المسوّقين المتألقين أن يجعلوا الناس يشترون قاذورات معبأة في علب بلاستكية مزركشة دون الحاجة إلى بذل أي مجهود في الإقناع..بمجرد خلق شعور حسن لدى زبنائهم وربط ذلك الشعور بمنتجاتهم القذرة..وترصيخ قناعة عميقة مفادها أن القذارة مصدر للسعادة..فيقبلـون عليها ويتسارعون لأقتنائها..

وربما هذا ما يجعلني شخصيا أضع علامة استفهام كبيرة حول مدى مشروعية مداخيل بعض الشركات والأفراد الذين لا يتورعون في استغلال هذه الممارسات من جهة..وجهل الناس من جهة أخرى للتحايل عليهم قصد تصفية منتجاتهم..

لكن ليس هذا ما جعلني أتخذ موقفا من ذلك الشاب الوسيم..الذي ذاع صيته وازدهرت تجارته وظل بالرغم من ذلك في صباغته ومكانه..فبعد كل صلاة أؤديها في ذلك المسجد..إعتدت أن أخرج وأعبر الزنقة إلى الرصيف المقابل وأقف منتظرا خروج أحد الأصدقاء الذين رأيتهم بداخل المسجد قصد تحيتهم والسؤال عن أحوالهم..فأقف في الجهة المقابلة لذلك البائع أنظر إلى تكدس الشباب الخارج المسجد أمام "فرَّاشته"..شباب أغلبهم قد بدأ لتوه اكتشاف حلاوة الإيمان..وبعضهم قد بدأت تنطفئ في قلبه شعلة الإيمان..فيعتقد هؤلاء وهؤلاء أن الإستماع إلى بعض الأشرطة الصوتية وقراءة بعض الكتيبات الرخيصة واتخاذ بعض الأزياء الخاصة سيجعل رصيده من الإيمان يتضاعف..

ثم يخرج النساء من المسجد..فأرى بعض الشابات من "الأخوات ديال عمرو خالد" يقدُمن بدورهن ليتكدسن أمام المتجر الحر للشاب الوسيم..يعشن هن كذلك تلك اللحظة الإيمانية وذلك الواجب الديني في التزود بالعلم..علم الإشرطة والكتيبات..

إنه لمنظر منرفز بالفعل..حينما ترى الفراغ الذي يخلّفه غياب دور العلماء والوعاظ في إيصال شعلة العلم ونقله كما تلقوه من أسلافهم إلى أخلافهم..يتم ملؤه بكتيبات كل محتواها لا يتجاوز بعض المعلومات الموضوعية والأسطر الجافة..يستغل أصحابها ذريعة نشر الدعوة في تحقيق الأرباح وتحصيل المال.."يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم"..فمن حقك أن لا تتجرع المشهد فضلا عن أن تتقيأه وتطرده من قلبك..

لكن ليس هذا ما جعلني كذلك أتخذ موقف الحذر من ذلك الشاب..لقد كنت بوعي أو بغير وعي أصغي خلال وقفتي القصيرة تلك..للأشرطة التي كان يقوم بتشغيلها مباشرة بعد انتهاء الصلاة لجذب الزبائن..فلاحظت أن الآيات التي كانت تتلى من مكبر صوته غالبا ما تنتمي إلى سورة الأنفال والتوبة والسور المشابهة لها..وكان الشيخ الوحيد الذي يقوم بتشغيل محاضرته هو الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله..الأولى آيات جهاد والثانية دروس انقلاب..يتم تكرارها كل يوم..وتلقى إقبالا تلقائيا من طرف شريحة من الشباب قد ضاقوا ذرعا بما يلاقونه في واقعهم المتكرر من ضغوطات اجتماعية وأزمة اقتصادية..شباب..تم استدراجهم بطريقة إرادية واعية إلى نوع من التفكير الراديكالي المتطرف جعلهم يشيطنون كل من لا يوافقهم رأيهم وأي شخص يعتقد غير اعتقادهم..
وقد أكـون ممن تمت شيطنتهم من قبل أولئك الشباب الذين اعتقدوا لوهلة أن الفردوس لم يخلق لغيرهم..وأن الجنة لن يرِدها إلا من سار على دربهم..

ويا لغبائهم..فلم يمر على تلك المشاهد الإيمانية الجميلة سوى سنة أو يزيد..حتى وقعت واقعة ماي 2003..تلتها موجة من الإعتقالات طالت كل الشباب الذين أقبلوا على أشرطة الشاب الوسيم ..وظل هو حرا طليقا يستدرج زبائنه من رواد المسجد ليبيعهم سلعه المفخخة..

من أجل ذلك..كمتصفح للعالم الإفتراضي..عندما ألج موقعا أو صفحة اجتماعية تُكرر نشر مقاطع الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله ومقولاته..لا أتردد بالخروج ومغادرته..فمن يدري..لعلها مصيدة..ولا أود أن أكون فريستها!

لست سمكة..ولا الطعم يغريني..



0 تعليقات :